ملك الموت في عمارتنا

.

.

بسم الله الرحمن الرحيم

.

والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين

نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

.

.

الــمــوت

.

في كل يوم نذكره مراراً

.

فلان مات الله يرحمه

فلانة ماتت الله يغفرلها

.

نقولها بألسنتنا ببساطة

لأن الكلمة لم تعد تلامس قلوبنا !

ولم يعد للموت رهبة نستشعرها

ربما لكثرة الموتى من حولنا

والأكيد لأن قلوبنا قست

وغشاها ما غشى

ولا حول ولا قوة إلا بالله

.

.

الليلة الماضية بدت ككل ليلة

نام من نام

وسهر من سهر

مع جهاز الكمبيوتر أو كتاب أو ورقة وقلم

وهدوء معتاد

حتى الساعة الثالثة صباحاً

قطع الهدوء جرس الباب

فزعنا منه في هذا الوقت

وإذا بها جارتنا " أم عبد الواحد "

تطلب المساعدة لزوجها

ولم نفهم من كلامها غير أنها تحتاج مساعدة عاجلة

نزل أخي على عجل تبعه والدي

وبدأت الأصوات من شقة الجيران ترتفع

فأسرعت أمي وارتدت عباءتها ولحقت بهم

ثم أختي خلفها ولحقتهم أنا من بعد

.

أصوات

ضجيج

وصراخ

" اتصلوا بالإسعاف "

" مافي نبض "

" لالا بعده يتنفس "

.

دخلت المنزل فإذا بجارنا

" أبو عبد الواحد " ممدد على الأرض

بعد أن عجز الرجال عن حمله لضخامته

.

ابنته " أسيل " تكاد تُجن

ابنه " عبد الواحد " يحاول أن يعمل له تنفس اصطناعي

وزوجته " أم عبد الواحد " تبكي بصمت

ومن حولها الجارات تهدين من روعها

.

وتعود الأصوات ترتفع

" مات "

" لا ما مات "

.

تدخل أخت الجار لتزيد اللغط بصياح وندب

.

تأخر الإسعاف

اختفى والدي ومعظم الجيران

كلهم حرّك سيارته على عجل

يحاول طلب النجدة أو طبيب

أو أي أحد يمكنه إنقاذ الرجل

.

بدأت ترتفع الأصوات أكثر فأكثر

وطال الوقت

ضج " عبد الواحد " وانفجر بالبكاء

فقد بدأت علامات الموت تظهر على والده

والزبد يخرج من فمه

وسكون عم جسده

" هو قد مات "

لكن هول الصدمة منعهم من التصديق

.

وعاد الجدل

" في نفس "

" لا مافي"

و " أسيل " يعلو نحيبها

قال أحدهم " طيب غطّوه "

علا النحيب

أسرعت " أسيل " فأتت بغطاء

فغطت جسده

وانكبت تقبل وجهه

وتبكي

" مشهد لا أعتقد أني سأنساه "

.

وبين أخذ ورد

ووصول العمات

أخوات " أبو عبد الواحد "

وازدحام الناس

وصل الدفاع المدني

وبعد فحص ومحاولات وصدمات للقلب

ظهر أن الرجل قد أسلم روحه

لكن لغط القادمين وهول الموقف

بقي أحد ما يؤمل

" أنا شفته يتنفس"

" صدقوني ما مات "

" في نبض "

" لا مافي "

.

وصلت الشرطة

ووصل أخو " أبو عبد الواحد " متأخراً

وبعد مناقشات طالت

فقد " عبد الواحد " قوته وسقط أرضاً

اجتمع عليه الشباب

وبشدة صرخ به قريب له

" قم اوقف "

نضحت العمة في وجهه الماء

فاستجمع قوته ونهض

.

أخيراً قرر الدفاع المدني نقله

بعد تردد ونقاش طويل دار بينهم وبين الرجال

" حتى الساعة لا أعلم سببه ،

سواء حي أو ميت

ما الذي منعهم من انتشال الرجل من الأرض

خصوصاً مع الوضع الذي كان حاصل

لا أدري "

.

المهم أتى رجلان بيدهم حمّالة

وبمساعدة الموجودين

وبين بكاء ونحيب الموجودات

نقلوه إلى سيارة الإسعاف

وتبعه معظمهم بسياراتهم

حاولنا منع ابنته من مرافقته

لكنها أصرت ورافقت والدها

.

مضى الكل تقريباً

بقينا والجارة " أم أيمن "

و" أم عبد الواحد "

أحسبها كانت صابرة

ولم تفعل كما فعل أخواته من نحيب وصياح

بل إن صوتها لم يسمع رغم أنها زوجته

ومصيبتها فيه أعظم

أسأل الله أن يربط على قلبها

.

هدأ المكان

بدأنا بترتيب ما أُحدث من فوضى

وأزلنا بقايا زجاج تكسر عند مدخل البيت

وجلست أمي بجوار " أم عبد الواحد " تواسيها

.

دقائق ووصل أهل الزوجة المكلومة

وبين دموع وأحضان وتساؤلات

قررنا الإنسحاب لدخول أخوها ،

وصعدنا إلى بيتنا ..

تقريباً قبيل الفجر بقليل ..

.

كلنا كان واقفا

وشاهد ما حصل

وهاله ما رأى

.

أنا انسحبت

وتوضأت

ووقفت بغرفة وحدي لأصلي

حاولت أن أستوعب ما حصل

خواطر كثيرة دارت في رأسي

كدت أن أُجن

وأكثر ما أفزعني

أني أدركت أن ملك الموت كان في عمارتنا

بل لعله كان بجانبي حين دخلت بيت جارنا

نعم كنت وملك الموت في غرفة واحدة

لم يمنعه مني غير أن أجلي لم يحن بعد

.

لكن ماذا لو كان جاء لأجلي لا لأجل الجار

ماذا لو كان اليوم يومي لا يومه

ماذا لو كنت أنا الميتة

ماذا لو كنت أنا الممددة أرضاً

وأنا التي يبكونني

ماذا لو كانت فرصتي في الحياة الدنيا قد انتهت

ماذا لو كانت روحي ستصعد إلى ربها الليلة

ماذا لو كان جسدي سيوسد القبر اليوم

ماذا قدمت ؟

وماذا أخرت ؟

.

خواطر فجرت أنهاراً من دموع

وكاد عقلي أن يطيش

و قلبي أن ينخلع لهول ساعة

لم تكن كأي ساعة

ساعة زارنا فيها ملك الموت

ولأول مرة في حياتي

أشاهد روحاً تقعقع

وجسداً يزبد

وسكون الموت ينزل بجسد أمام ناظري

فيُحيلُه جثة هامدة

.

لا إله إلا الله

.

اللهم ارحمنا فأنت بنا راحم

ولا تعـذبنا فأنت عـلينا قادر

.

اللهم ارحمنا إذا أتانا اليقين

و عرق منا الجبين

و كثر الأنين و الحنين

.

اللهم ارحمنا إذا يئس منا الطبيب

و بكي علينا الحبيب

و تخلى عنا القريب و الغريب

و ارتفع النشيج و النحيب

.

اللهم ارحمنا إذا اشتدت السكرات

و توالت الحسرات

و أطبقت الروعات

و فاضت العبرات

و تكشفت العورات

و تعطلت القوة و القدرات

.

اللهم ارحمنا إذا بلغت التراقي

و قيل من راق

و تأكدت فجيعة الفراق للأهل و الرفاق

و قد حان القضاء فليس من واق

.

اللهم ارحمنا إذا حُملنا على الأعناق

إليك ربي يومئذ المساق

وداعًا أبديًا للدور و الأسواق و الأقلام و الأوراق

إليك يا من تذل له الجباه و الأعناق

.

اللهم ارحمنا إذا وورينا التراب

و غلقت من القبور الأبواب

و انفض الأهل و الأحباب

فإذا الوحشة و الوحدة و هول الحساب

.

اللهم ارحمنا إذا فارقنا النعيم

و انقطع النسيم

و قيل ما غرك بربك الكريم

.

اللهم ارحمنا إذا أقمنا للسؤال

و خاننا المقال

و لم ينفع جاه و لا مال و لا عيال

و قد حال الحال

فليس إلا فضلك يا كبيرا متعال

.

اللهم ارحمنا إذا نُسي اسمنا

و درس رسمنا

و أحاط بنا قسمنا ووسعنا

.

اللهم ارحمنا إذا أًهملنا فلم يزرنا زائر

و لم يذكرنا ذاكر

و ما لنا من قوة و لا ناصر

فلا أمل إلا في القاهر القادر الغافر

.

لا إله إلا الله

.

.

اللهم اغفر لـ " أبو عبد الواحد " وارحمه

وعافه واعف عنه

وأكرم نزله ووسع مدخله

واغسله بالماء والثلج والبرد

ونقه من الذنوب والخطايا

كما ينقى الثوب الأبيض ن الدنس

.

اللهم جازه بالإحسان إحسانا

وبالسيئات عفواً وغفرانا

.

اللهم أبدله داراً خيراً من داره

وأهلاً خيراً من أهله

وزوجاً خيراً من زوجه

وأسكنه اللهم الجنة

وقه عذاب القبر وعذاب النار

.

اللهم ثبته عن السؤال

اللهم هون عليه ضمة القبر

اللهم أنزل على قبره الضياء والنور

والفسحة والسرور

حتى يكون فيه مطمئناً

.

اللهم إنه في حاجة لرحماتك

وأنت الغني عن عذابه

فارحمه برحمتك يا أرحم الراحمين

.

اللهم اربط على قلوب زوجه وعياله

اللهم ارزقهم الصبر والرضا

اللهم أجرهم في مصيبتهم

واخلف لهم خيراً منها

.

آمين

.

آمين

.

آمين

.

.

.

.

.